الاستثمار في الإنسان.. كيف تصنع «القلعة» مستقبلًا مستدامًا عبر التعليم وتمكين الشباب
في عالمٍ يتغير بوتيرة غير مسبوقة، بات التعليم أكثر من مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، أصبح بوابة نحو المستقبل، وأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. فالتعليم يطلق الطاقات الكامنة، ويمنح الأفراد القدرة على الإبداع والتفكير النقدي، ويصنع الفارق بين مجتمع يستهلك الأفكار وآخر يُنتجها. وهو المحرك الحقيقي للنمو الاقتصادي والتمكين الاجتماعي، إذ يمهّد الطريق لبناء أجيال قادرة على قيادة التغيير، ومواكبة التحولات العالمية التي تعيد رسم ملامح سوق العمل والاقتصاد. ومن هنا، يُعد الاستثمار في التعليم استثمارًا في مستقبل أكثر شمولًا واستدامة؛ مستقبل يرتكز على بناء الإنسان وتنمية قدراته في مواجهة تحديات عالم لا يتوقف عن التطور.
في مسطرد، في أواخر عام 2006، بدأت أولى خطوات مشروع الشركة المصرية للتكرير بقيمة 4.3 مليار دولار، انطلاقًا من رؤية شركة القلعة لتلبية الاحتياجات المحلية وتعزيز القيمة المضافة لموارد مصر، والمساهمة في تقليص وارداتها من المنتجات البترولية وتحقيق الاكتفاء الذاتي للمنتجات السائلة، مع تحسين جودة الحياة. يُعد المشروع أكبر مشروعات البنية التحتية في مصر، وأكثر من مجرد أرقام وتمويل دولي؛ فهو يحمل قصة إنسانية تتنامى بدراسة وصبر، قصة الاستثمار في الإنسان، وتمكين الشباب والمرأة وذوي الهمم، وصناعة الفرص التي تتحول إلى أثر ملموس في حياة الأفراد والمجتمعات.
التعليم وتنمية رأس المال البشري: نهج استراتيجي
اختارت شركة القلعة وشركاتها التابعة أن تجعل من التعليم وتنمية رأس المال البشري حجر الزاوية في مسيرتها نحو تحقيق تنمية مستدامة قائمة على المعرفة والمهارة والابتكار؛ ليس بوصفها مبادرات مجتمعية عابرة، بل كنهج استراتيجي ثابت وإيمان راسخ بأن بناء العقول هو الطريق لبناء الأوطان. فالشباب هم الثروة الحقيقية لمصر وميزتها التنافسية الأكبر، وتمكينهم بالمهارات والمعرفة الحديثة هو السبيل لبناء مستقبل أكثر ازدهارًا واستدامة.
وتجسيدًا لهذه الفلسفة، برزت الشركة المصرية للتكرير — إحدى الشركات التابعة للقلعة في مجال الطاقة — كنموذج يحتذى به في تطبيق مفهوم الاستثمار المسؤول الشمولي، إذ يتبلور التزامها في تطوير مشروعات ذات أثر إيجابي ومستدام على الاقتصاد والبيئة والمجتمع، بما يواكب أهداف رؤية مصر 2030 وأجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. فقد نجح مشروع الشركة في خلق أكثر من 15 ألف فرصة عمل أثناء مرحلة الإنشاء، من بينهم 30% من أبناء المجتمعات المحيطة، فضلًا عن 1200 وظيفة دائمة عند التشغيل، ما ساهم في نقل المعرفة وتنمية رأس المال البشري وتعزيز فرص التنمية المحلية.

وعلى الصعيد المجتمعي، كانت شركة القلعة من أوائل الشركات المصرية التي جعلت من تطوير المنظومة التعليمية وبناء الإنسان محورًا رئيسيًا في استراتيجيتها للتنمية المستدامة.
تبنّت الشركة نهجًا تكامليًا في تطوير رأس المال البشري يشمل مختلف المراحل التعليمية؛ بدءًا من مرحلة رياض الأطفال عبر برنامج “مستقبلي للمعلمين” وبرنامج “نظارتي”، مرورًا بمرحلة التعليم الفني والجامعي من خلال منح “مستقبلي للطلبة” و”مركز القلعة للخدمات المالية” بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وصولًا إلى الدراسات العليا عبر “مؤسسة القلعة للمنح الدراسية”.
كما امتدت جهودها إلى تمكين الشباب والمرأة من خلال برنامجي “تمكين” و”مشروعي”، ودعم ريادة الأعمال عبر “ريادة”، وتعزيز الدمج الاجتماعي من خلال مبادرة “تكافل” لدعم ذوي الهمم.

منهجية مستدامة: تقييم الأثر البيئي والمجتمعي
وفي إطار هذه الرؤية الشاملة، جاءت الشركة المصرية للتكرير لتترجم هذا النهج إلى واقعٍ ملموس في المجتمعات المحيطة بمشروعها في منطقة مسطرد. حيث تبنّت الشركة فلسفة «الاستثمار المسؤول» التي تنتهجها مجموعة القلعة، ووضعت التنمية المجتمعية المستدامة ضمن أولوياتها منذ المراحل الأولى للمشروع.
وفي هذا السياق، قامت الشركة بإجراء أول دراسة تقييم شامل للأثر البيئي والاجتماعي في مصر، كأحد المتطلبات الأساسية التي وضعتها مؤسسة التمويل الدولية (IFC) وهي من أبرز مؤسسات التمويل التنموي المشاركة في تمويل المشروع. وقد تم تنفيذ التقييم وفق منهجية علمية دقيقة من قبل طرف ثالث مستقل، لضمان الشفافية وتحديد الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات المحلية وآليات التعامل معها بشكل مستدام.
أسفر هذا التقييم عن تحديد أربعة محاور رئيسية لبرامج التنمية المجتمعية للشركة، تشمل:
1. الارتقاء بالمنظومة التعليمية عبر برنامج “مستقبلي” للمعلمين والطلاب
2. زيادة الدخل والتمكين الاقتصادي للشباب والمرأة من خلال برنامجي “تمكين” و”مشروعي”
3. بناء قدرات الشباب وريادة الأعمال عبر برنامج “ريادة”
4. دعم وتمكين ذوي الهمم من خلال مبادرة “تكافل”
برامج نوعية لتحقيق أثر ملموس على مدار عشر سنوات
انطلق هذا الجهد من الاستماع المباشر لاحتياجات المجتمع وتحديد أولوياته، ثم ترجمة تلك الاحتياجات إلى برامج حقيقية تحدث تغييرًا ملموسًا. ويشرف على هذه المبادرات فريق متخصص يتابع رحلة المستفيد منذ لحظة اختياره وحتى اندماجه مهنيًا ومجتمعيًا، وذلك بالشراكة مع مؤسسات حكومية وخاصة ومجتمع مدني، بما يضمن أعلى معايير الشفافية والمصداقية في التنفيذ والتقييم.
وخلال عقد كامل من العمل الدؤوب، احتفت الشركة المصرية للتكرير بإتمام عشر سنوات من العمل المجتمعي الذي مكّن آلاف الأفراد من تحقيق طموحاتهم، فقد قدمت الشركة من خلال برنامج “مستقبلي” أكثر من 714 منحة تعليمية وتدريبية للطلاب والمعلمين والمشروعات الواعدة من بينهم 200 منحة للتعليم الفني بالتعاون مع معهد السالزيان دون بوسكو، لتجسّد التزامًا حقيقيًا بالمسؤولية المجتمعية، وترسّخ نموذجًا فعّالًا للمتابعة وقياس الأثر وضمان استدامته. كما امتد الأثر ليشمل أكثر من 574 ألف مستفيد مباشر وغير مباشر، و17،830مستفيدًا من مبادرة “تكافل” لدعم ذوي الهمم.
وتماشياً مع التوجه العالمي نحو اقتصاد قائم على المعرفة، أولت المبادرة اهتمامًا خاصًا بمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، حيث قدمت 122 منحة متخصصة أُتيحت من خلالها فرص دراسية متقدمة ساعدت الطلاب المتفوقين على اكتساب مهارات المستقبل والانخراط في مجالات الابتكار والبحث العلمي وريادة الأعمال، دعمًا لمسار الدولة نحو التحول الرقمي والتنمية المستدامة.

شروق يحيى: قصة إصرار لا يعرف المستحيل
أما شروق يحيى، فقد حملت منذ صغرها حلمًا بأن تُثبت أن الإرادة قادرة على كسر أي قيود، فرغم اعتمادها على كرسي متحرك منذ الولادة، لم يكن ذلك يومًا عائقًا أمام طموحها، بل دافعًا لتكريس وقتها للدراسة والتفوق.
وبعد حصولها على 91.7% في الثانوية العامة، تم ترشيحها للحصول على منحة “مستقبلي” المقدمة من الشركة المصرية للتكرير (ERC)، وكانت تلك اللحظة بداية تحول جذري في حياتها الأكاديمية والشخصية.
وقالت شروق: “في البداية كنت أعتقد أن وجودي على كرسي متحرك سيمنعني من القيام بالكثير من الأمور التي أطمح إليها، لكنني وجدت من يشجعني ويؤمن بأنني أستطيع أن أحقق أكثر من غيري، أكاديميًا ومهنيًا”.

خلال جلسات التعريف التي نظمتها الشركة في مدرستها، تعرفت شروق على مجالات دراسية جديدة، وكان لقاءها مع أحد أساتذة اللوجستيات نقطة تحول فتحت أمامها آفاقًا واسعة لمستقبل مهني واعد. بدعم من فريق المشاركة المجتمعية في الشركة، تم التواصل مع الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري (AASTMT) لمساعدتها في الالتحاق بالجامعة، حيث اجتازت المقابلات والاختبارات بنجاح وانضمت رسميًا إلى برنامج دراسة اللوجستيات.
لم تقتصر رحلة شروق مع برنامج “مستقبلي” على الدعم الأكاديمي فقط، بل شملت أيضًا دعمًا طبّيًا وإنسانيًا من خلال برنامج “تكافل” لذوي الاحتياجات الخاصة التابع للشركة المصرية للتكرير والذي مكّنها من الاعتماد على نفسها بشكل أكبر، إذ حصلت على كرسي كهربائي متحرك ساعدها على التنقل بحرية إلى الجامعة ومتابعة دراستها بثقة واستقلالية. كما يواصل فريق المسؤولية المجتمعية بالشركة متابعتها دوريًا للتأكد من حصولها على كل ما تحتاجه من دعم أكاديمي ومعنوي.
اليوم، وبعد أن أصبحت طالبة في عامها الثالث في الأكاديمية، تؤكد شروق أن التجربة غيّرت نظرتها للحياة، ومنحتها الثقة بالنفس والشعور بالانتماء.
تطمح شروق إلى إكمال دراساتها العليا والحصول على الدكتوراه، كما تحلم بالعمل في الشركة المصرية للتكرير يومًا ما لتعود بالنفع على المؤسسة التي آمنت بها.
وتختتم حديثها برسالة تشجيع قائلًة: “منحة مستقبلي من أفضل الفرص التي يمكن أن يحصل عليها أي شخص، فهي لا تطورك أكاديميًا فقط، بل تجعلك تنمو فكريًا وإنسانيًا.”
تُجسد قصة شروق يحيى المعنى الحقيقي لـ التمكين والمساواة في الفرص، وتُبرز كيف يمكن للاستثمار المجتمعي في التعليم والدعم الإنساني أن يصنع قصص نجاح حقيقية تُلهم الأجيال القادمة.

محمد السيد: التعليم الفني طريق التمكين
أما محمد السيد، فيجسد قيمة التعليم الفني كمسار صلب للتمكين الاقتصادي. بدأ رحلته بالحصول على منحة للدراسة بمعهد دون بوسكو، حيث تلقى تدريبًا تقنيًا متخصصًا في اللحام. في البداية، كان الطريق مليئًا بالتحديات؛ تدريب عملي مكثف، والتزام صارم، وثقافة مهنية جديدة تمامًا. لكن محمد كان يرى في كل يوم خطوة نحو مستقبل مختلف.
وبعد التخرج، واصل تطوير نفسه، فحصل على شهادات متقدمة في فحص اللحام والعمل على الارتفاعات (Rope Access).
اليوم، يعمل محمد بإحدى الشركات المتخصصة في السلامة والصيانة الصناعية، ويُعد من الكفاءات الفنية التي تُشارَك في مشروعات كبرى وتتولى مهامًا حساسة تتطلب دقة عالية. وتعد قصته شهادة حية على أن التعليم الفني ليس مسارًا ثانيًا، بل طريقًا ذهبيًا للتميز والاعتماد على الذات والمساهمة في الاقتصاد الوطني.

في قلب استراتيجيتنا، لا تُقاس التنمية بالأرقام وحدها، بل بما تُحدثه من تغيير في الوعي والسلوك والفرص، وما بدأته القلعة والمصرية للتكرير قبل عقد تحوّل إلى ثقافة مؤسسية متكاملة تتجاوز تقديم الدعم إلى خلق منظومة مستدامة لصناعة الفرص وتمكين الأفراد. وهو نهج يتسق مع رؤية مصر، التي تضع التعليم وتمكين الشباب في صميم أولوياتها.
واليوم، تمتد ثمار هذا النهج إلى الأسر والمجتمعات، وتنتقل قصص النجاح بإلهام يفتح الأبواب أمام الآخرين.
ونحن إذ نحتفي بهذه المحطة المهمة، نتطلع إلى مواصلة توسيع نطاق مبادراتنا وتعميق شراكاتنا وتعظيم أثرنا، لنظل نموذجًا رائدًا للمسؤولية المجتمعية والتنمية المستدامة في مصر والمنطقة، مؤمنين بأن الفرصة العادلة قد تغيّر حياة فرد، لكنها قادرة أيضًا على إلهام مجتمع بأكمله.




